
"تقدَّم إلى الوسط وأسمِعنا صوتك" هكذا دعا (الأب البروفسور جورج حبيقة) بكل رحابة، جميع اللبنانيين للتعبير عن رأيهم بكل حرية. خلال مقابلة معه على شاشة MTV، في سياق تعقيبه على تصريحات عن "إقامة دولة إسلامية" ضمن مشروع (ولاية الفقيه) في لبنان. فاستجابةً لدعوة الأب صاحب الأسلوب الشائق والممتع. ها أنا أتقدم للوسط، لأعبر وأعلق على عبارات وردت على لسانه، وأثارت جدلاً وردود أفعال على مواقع التواصل.
1- قال الأب حبيقة: ".. النبي محمد هو ربيب الكنيسة مع القس ورقة بن نوفل والأحاديث النبوية تظهر هذا الشيء بشكل رائع، أن النبي محمد أول زوجة له هي خديجة، هي مسيحية".
وهنا نتساءل عن مقصد الأب من قوله بأن النبي صلى الله عليه وسلم "ربيب الكنيسة" ، هل يقصد حين خرج النبي محمد وهو حديث السن مع عمه أبي طالب إلى الشام، فلما أشرفوا على الراهب .. جاء فأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبقَ شجر ولا حجر إلا خرَّ ساجداً ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ..". (حسنه الترمذي)
أم يقصد لقاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع ورقة بن نوفل ابن عم زوجته خديجة، وكان امرأً تنصَّرَ في الجاهلية، فيَكتُب من الإنجيل بالعِبرانية، وكان شيخًا كبيرًا مُسنًّا قد فقَد بصَره حيث أخبره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خبَر ما رأى من الوحي وظُهورِ الملَكِ جبريل له وما قاله له، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل اللهُ على موسى، يا لَيتني فيها جذعًا - أي: شابًّا قويًّا - ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوَمُخرِجيَّ هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجل قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودي، وإن يدركْني يومُكَ أنصُرْك نصرًا مؤزَّرًا. ثم لم يَنشب ورقةُ بن نوفل أن تُوفِّيَ بعد ذلك بقليل. (البخاري ومسلم).
وعليه، هل يعتبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم "ربيب الكنيسة" بسبب لقاءين تم فيهما تجسيد تشوف وتشوق شهود بشارة العهدين القديم والجديد؟ وإن سلَّمنا جدلاً وفق هذا السياق، أليست الكنيسة مدعوة لاتباع الراهب بحيرى والقس ورقة، اللذَيْن شهدا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بصدق نبوته ومناصرته؟!
كما أنه أين الدليل أو الوثيقة التي تشير إلى أن السيدة خديجة كانت نصرانية؟؟ حبذا لو يشار إليه، لأني لم أجد أي دليل على هذا. مع أن المسلمين بكل أريحية يفتخرون بأن من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمُّهم صفية من أصل يهودي، ومارية من أصل قبطي، فلا حرج عندنا لإنكار أي أصل مسيحي في حال ثبوته.
مع الإشارة إلى أن المسلمين يعتقدون {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } آل عمران: 19. {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} آل عمران 67. وعليه نعم نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم امتداد لنبوة المسيح وموسى وجميع الأنبياء من لدن آدم عليه السلام، الذين دعوا للتوحيد وبشروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الصافية من أي تحريف أو تبديل، وهذا المعتقد مخالف تماماً لمعتقد الكنيسة!
لكن متوافق مع تعاليم المسيح عليه السلام، كما صرَّح ملك الحبشة النجاشي العادل، بعد أن استمع للناطق الرسمي باسم وفد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين لجؤوا إليه، قال: إن هذا الذى جاء به نبيكم والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. وبعدها مات مسلماً وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب. (البخاري ومسلم)
هذا بالإضافة لدعوة حاكم مسيحي آخر، وهو هرقل الذي وصله رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة، فقال لأبي سفيان : ".. سيَملِكُ موضعَ قدميَّ هاتَينِ، وقد كنتُ أعلم أنه خارج، لم أكن أظنُّ أنه منكم من العرب، فلو أني أعلم أني أَخلُص إليه لتجشَّمتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلت عن قدميه. ثم خاطب المسيحيين من قومه:" يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشدِ، وأن يَثبتَ مُلككم فتُبايعوا هذا النبي؟". (البخاري)
2- قال الأب حبيقة: ".. ميثاق المدينة ميثاق عظيم..أول ميثاق في العالم مدني بمجموعات دينية. (نحن على تنوعنا الديني نشكل أمة واحدة) هل هناك أجمل منها أن تعتبر الآخر المختلف كشريك لك لا أنت أحسن منه ولا هو أحسن منك. عملوا ميثاق المدينة ليجمع هذا التنوع الديني في يثرب. ولكن بعد ذلك سقط ميثاق المدينة وفرضت الشريعة الإسلامية على الجميع..".
وهنا أتقدم للوسط مرة ثانية وأقول: النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته للمدينة المنورة وادع اليهود فيها، وعاهدهم بميثاق بيَّن فيه ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، وكان من بين بنود ذلك الميثاق: أن للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
وقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا العهد والميثاق، ولكن اليهود ـ نقضوا العهد قبيلة قبيلة. فمن بني النضير الذي قاموا بمحاولة اغتيال فاشلة للنبي صلى الله عليه وسلم. إلى يهود بني قريظة الذين غدروا، وتمالئوا مع الأحزاب بجيش قوامه عشرة آلاف عسكري، لاستئصال المسلمين جميعاً. فلما خاب كيدهم نالوا جزاءهم. ويهود بني قينقاع الذين هتكوا ستر امرأة ونزعوا عنها ثوبها، وقتلوا مسلماً غار على عرضه، فاستحقوا جزاء نقضهم للصحيفة.
كما ومما جاء في السنَّة العملية أيضاً كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران في ما نصه: «ولنجران وحاشيتها جوار اللَّه وذمَّة مُحَمَّد النَّبِيّ رَسُول اللَّهِ، عَلَى أنفسهم، وملتهم.. . لا يُغيَّر ما كانوا عَلَيْهِ ولا يُغيَّر حق من حقوقهم وأمثلتهم. لا يُفتن أسْقُفٌ من أُسْقُفيَّته، ولا راهب من رهبانيَّته،.. وليس عليهم رهَقٌ ولا دم جاهلية، ولا يُحشَرون أي: لا يُندَبُون إلى الغزو، ولا يُعشَّرون _ أي: لا يؤخذ عُشر أموالهم_ ولا يطأ أرضهم جيش. من سأل منهم حقاً فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين بنجران». (طبقات ابن سعد)
ليس المسلمون الذين انقلبوا على صحيفة المدينة أول دستور مكتوب في العالم. بل الدول المتعاقبة من الأمويين إلى العثمانيين مروراً بدولة بني العباس، بالرغم من عدم بلوغهم درجة الخلفاء الراشدين، إلا أنه لا يمكن القول بأنهم فرضوا الشريعة، بل الأغلبية الساحقة من سكان هذه البلاد، لم يرتضوا سوى الشريعة منهجاً ودليلاً. وتم احتضان باقي الأديان، على قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
3- قال الأب: "ميثاق المدينة مات، انتظرنا بالشرق 14 قرناً حتى أعدنا الحياة إلى ميثاق المدينة في الميثاق اللبناني، الميثاق اللبناني العظيم .."
وهنا أتقدم للوسط مرة ثالثة لأقول: "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني" أو اتفاق الطائف، أسكتت صوت المدافع بين الأحزاب اللبنانية المتناحرة، بسبب مخلفات المارونية السياسية، فجاءت لتعيد توازناً جزئياً لحقوق المسلمين، وكرَّست الطائفية السياسية. في مضمون يصعب تشبيهه ب"صحيفة المدينة".
واليوم نسأل: وانطلاقاً من الدستور اللبناني الذي دعا لإلغاء الطائفية السياسية، ومن الأصوات المطالبة بالدولة المدنية أسوة بسويسرا وأوروبا:
هل المسيحيون مستعدون للاحتكام لصناديق الاقتراع، باختيار رئيس الجمهورية؟ هل مستعدون لإلغاء المناصفة بمجلس النواب بين المسلمين والمسيحيين، واعتماد اختيار أغلبية الشعب، والكفاءة باختيار الوزراء دون اعتبار للطائفة والمذهب؟ هل مستعدون للاستغناء عن فكرة حلف الأقليات والاستقواء بالغرب والانسلاخ عن الامتداد العربي المسلم؟ هل تقبل الكنيسة في لبنان التخلي عن سلطتها واستقلاليتها عن الدولة، كما هو الحال مع دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية والقضاة الشرعيين؟ ماذا لو اختار ٦٦% من الشعب اللبناني اعتبار القرآن مرجعاً للدستور اللبناني؟ حينها هل ستبقى المطالبة بالدولة المدنية؟
أم أننا سنستغرق بإجابة
تساؤل آلان تورين: ما هي الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية؟
تقدَّم إلى الوسط وأسمِعنا صوتك.
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك