
نعيش هذه الأيام مرحلة تسلّط التقنية وتطبيقاتها الشمولية على الإنسان ومجاله الاجتماعي والفكري والسياسي والاقتصادي، فالمجتمع الافتراضي أصبح ملاذ الكثير للعيش في دهاليزه الخفية، لما فيها من شغف ومتعة تستجيب لعقل الشاب الميّال نحو السرعة والحرية والاستقلال، ومن خلال هذا العالم الرقمي الرهيب؛ تحقق العبور الكبير نحو اللاحدود واللاسدود بين البشر، فأصبحنا متقاربين وجهاً لوجه في بيت واحد. كما أن التقنية وفّرت اقتصاداً حرّاً، عصياً عن السيطرة، ومهما حاولت الجهات الرقابية فرض قوانينها عليه إلا وينجح في الإفلات والظهور مرة أخرى بأشكال مختلفة، وكذا السياسة والثقافة لم تستطع التماسك نحو السيولة الجارفة التي جاءت بها تقنيات مواقع التواصل الاجتماعي بأشكالها الشمولية بشعار: «لا شيء خارج سلطة التقنية، ولا شيء يقف ضدها». هذه الهيمنة الناعمة بدأت تغزونا بطريقة أن تَسكَر أولاً ثم تستسلم لشغفها بلا وعي ثانياً، فالتقنية اليوم من خلال تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي (تويتر، سناب شات، يوتيوب، انستجرام، فيس بوك) جعلت الزمان والمكان منضغطين في هاتف محمول بحجم الكف، نمارس خلاله المتعة والمشاهدة والسماع والتواصل بلا أي قيود وموانع، بمعنى أن الذات تشكّلت في رغباتها واحتياجاتها، وحتى هوياّتها التي تتخفى داخل تلك التطبيقات، وانصهرت في أوعية جديدة تحت ضجيج المتعة المرئية والسمعية. أمام هذه المرحلة تتكشف لنا إشكالات أمنية وأخلاقية ومخاوف مجتمعية، ورعب من وجود عالم سفلي (غير مرئي) أو افتراضي لا يخضع حتى الآن إلا لقيود من صنعه مع محاولات مستميتة تقوم بها التقنية للتمرد على أي سلطة مركزية في حالةٍ أشبه ما تكون بسيناريوهات هوليود وهي تحلّق بمشاهديها في خيال الذكاء الصناعي على هيئة قصص آخر الزمان ونهاية العالم.
لكن هذا الخيال الهوليودي ظهر واقعياً، مُحدثاً صدمةً عنيفةً أصابت العالم كله عندما أقدم الإرهابي برينتون تارنت اليميني الأسترالي المتطرف بالاعتداء على مسجدين في مدينة كرايست تشيرش في نيوزلندا يوم الجمعة 15 مارس 2019، متسبباً في قتل خمسين مصلٍ آمنٍ كانوا في بيت من بيوت الله تعالى، هذا المتطرف ذكر في بيانه الذي نشره يوم المذبحة الإرهابية على موقعه في «تويتر» بعنوان: «الاستبدال الكبير» مع تصويره المباشر لجريمته البشعة وبثّه مباشرةً على موقعه في «الفيس بوك»، أنه حضّر لهذه العملية منذ عامين متأثراً بشخصيات إرهابية ومتوعداً شخصيات عالمية بالقتل، وغارقاً في استجلاب المواجهة التاريخية بين المسلمين والصليبين، ومطهّراً بلاده من المهاجرين، كما يزعم. هذا الأنموذج الذي ظهر بشكل صارخ وصادم للعالم أيقظ الدول والهيئات العالمية على خطر لطالما خضع لتأويلات السياسة ورجال الدين وتوظيف المرتزقة المتآمرين، ولكننا أمام هذه الحالة المتكررة والمخيفة تجعل من الضرورة رصد هذه الظاهرة وفتح باب النقد بلا مواربة واضعين نصب أعيننا حاجتنا للسلام والأمان والتسامح، ولعلي من خلال التساؤلات النقدية لخطاب الكراهية أن أطرح بعض القضايا على النحو الآتي:
أولاً: هل الكراهية دافعٌ للقتل؟ إن الإنسان العادي يمكن أن يكره فردا أو طائفة أو شعباً من الشعوب، ولكن ليس بالضرورة أن يفكر بإيذائهم أو يعمل بعد ذلك على قتلهم، ولكن عندما يصبح خطاب الكراهية أهم الدوافع للقتل، فنحن أمام حالة قابلة للانفجار قد تمت تعبئتها بالانتقام وتحريضها على العنف؛ تمهيداً لاستباحة الدماء بلا أدنى وجل، وهذا لا يتأتى بشكل عابر؛ بل هو تراكم من الأفكار والقناعات تتنامى مع الزمن؛ تحوّل هذه الكراهية إلى عقيدة لا تتزحزح، ومشروع حياة؛ ولكن لأجل القتل والتدمير!، هذا الاضطراب النفسي والفكري الملبّس بالدين والمقدس وإنقاذ العالم من المهرطقين، لم يعدّ حكراً على دين أو مجتمع معين، فدوافع القتل اليوم التي تمارسها الميليشيات الشيعية في العراق وسورية أو داعش والقاعدة هي ذات الدوافع التي ظهرت للعالم من ممارسات اليمين المتطرف القومي والمسيحي الأوروبي والأميركي الذي أصبح سبباً في أشنع العمليات الإرهابية قتلاً للأبرياء، كما حدث في تفجير مبنى ألفريد مورا بمدينة أوكلاهوما في 19 ابريل 1995، ومجزرة أوسلو في 22 يوليو 2011، وأخيراً ما حدث في مدينة كرايست تشريش النيوزلنديه، يزيد من بشاعة الأمر وتحدياته المستقبلية ما أفادت به وكالة الشرطة الأوروبية (يوروبول) في أبريل 2018؛ بأن التهديد الإرهابي في أوروبا يبدو عالياً، وأن العدد المحتمل للإرهابيين في الاتحاد الأوروبي، يمكن أن يصل إلى (30) ألف شخص، وأن المخاطر الإرهابية في دول الاتحاد الأوروبي كبيرة ومعقدة (مجلة المجلة عدد 2 يوليو 2018)، هذه الحالات الواقعة والمتوقعة هي نتيجة طبيعية لخطاب الكراهية الذي يزرعه الساسة المتطرفون في كل محفل، وتنمّيه الجماعات القومية خصوصاً في المعارك الانتخابات، وأحياناً تشرعنه الجماعات الكنسية كخط دفاع من خطر المهاجرين المسلمين الهاربين لأوروبا، وهذا التحريض المؤسسي هو أسوأ حلقات التطرف، فالكراهية حينئذ ستجد طريقها نحو مواقع التشريع في البرلمانات، وتجد مكانها في الصحف والقنوات، وتصبح العنصرية المتخفية أهم قيم الهوية الغربية.
ثانياً: لماذا يتنامى خطاب الكراهية في الغرب؟ للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى التأكد من وجود خطاب كراهية أولاً، ثم مبررات هذه الكراهية في عالم غربي يدعو للتسامح والحرية والمساواة، أما عن وجود خطاب كراهية في الغرب ضد الآخر، فقد اصبح حقيقة يعترف بها الكثير من المفكرين والفلاسفة الغربيين (تشارلز تايلر، إدغار موران، تشومسكي)، فأوروبا رسمت لنفسها هويّة قومية مدموجة بجذور لاهوتية للمسيحية التي تمت علمنتها في مرحلة الكولونيالية أو الإمبراطوريات الاستعمارية، حصل ذلك عندما تبنت أوروبا فكرة أن العالم بحاجة إلى الخلاص والإنقاذ الضروري للشعوب المتخلفة الآثمة، ومع هذه الفكرة الخلاصية بثوب علماني جديد؛ تشرعن العنف باسم الاستعمار وتنامى الاستغلال والسيطرة المتعددة على شعوب العالم باسم الحداثة. (انظر: تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة، لطلال أسد، ترجمة دينا فرختو، نشر دار جسور 2016، ص 96،97). فالعقيدة العلمانية مارست التفوق والتبرير للتدخل في شؤون العالم بالقوة الخشنة أو المكر الناعم أحيانا، فأصبح خطاب الحداثة الغربي يشيع الرجعية والانتقاص للآخر، ومع الزمن أصبح الغرور الليبرالي ينظر بكراهية لغيره من الشعوب مهما حاولت تلك الشعوب من السعي خلف الغرب والتبعية العمياء له.
وحينما أشاع الغرب فكرة اندماج الأقليات فيه، لم يسمح لهم بالاندماج مع الحفاظ على هوياتهم الدينية خصوصاً المسلمين؛ بل كان يرى أن تلك الهويات تسمم الفضاء العلماني ولا يمكن قبول الآخر إلا بتخليه عن هويته الدينية، وأصبح الحجاب على سبيل المثال أمراً شديد الحساسية في عدد من الدول الغربية رغم كونه منسجماً مع الحرية والفردانية، أما اليمين الأوروبي فهو يرى كل مظهر إسلامي كالمناسبات الشعائرية ومحلات الحلال وتوزيع الكتب الدينية؛ خطراً مهدداً لمستقبل أوروبا، وإذا أخذنا في الاعتبار نجاح أحزاب اليمين في الانتخابات مؤخراً؛ فهو دليلٌ على قابلية بعض الأوروبيين للإيمان بهذا التهديد الوجودي في قارتهم العجوز.
ثالثاً: أن أعظم المعطيات التي ساهمت في سرعة انتشار الخوف من الإسلام وأنه مصدر تهديد وجودي للغرب، تلك المساحة الهائلة التي منحتها التقنية لأولئك المتطرفين لنشر أفكارهم وبث كراهيتهم للآخر، وفي هذا الصدد ذكر مرصد الإسلاموفوبيا التابع لدار الإفتاء المصرية، إن الساحة الكبرى لنشر خطابات العنصرية والتمييز ضد المسلمين في الخارج هي صفحات التواصل الاجتماعي، مؤكدًا أنها خطابات لا تختلف في مضمونها عن تلك التي يصدرها تنظيم «داعش» الإرهابي. وذكر المرصد أن الشرطة البريطانية في دراسة إحصائية قد أشارت أن خطابات الكراهية والعنف تزايدت بنسبة تصل إلى 40 في المئة وأن عدد الحوادث العنصرية وصل إلى 94098 حادثة من 2015 إلى مارس 2018. (صحيفة الشروق عدد 18 مارس 2019). وفي السياق ذاته، نشر معهد «بروكينغ» دراسة عن وجود اكثر من 46 ألف حساب في «تويتر» مرتبطة بتنظيم «داعش» حتى نهاية العام 2014، وتشير بعض التقارير الى إنّ هناك أكثر من 3 ملايين تغريدة تروّج وتؤيد «داعش» على «تويتر» من دولة واحدة فقط! وأكثر من 1.7 مليون مقطع فيديو إرهابي، مع الإشارة إلى أن «تويتر» تعترف بأنه مع وجود أكثر من 300 مليون حساب يعمل بنشاط، فإنه من الصعوبة أن تمتلك هذه الشركة القدرة على مراقبة ومتابعة والسيطرة على كل حساب ومعرفة ماذا ينشر أو من أي مكان يعمل صاحبه (صحيفة إيلاف 19 أكتوبر 2015). أمام هذه المعطيات الرقمية؛ حدث تحوّل كبير لدى الجماعات الإرهابية في العالم حيث أصبح خطابها التحريضي لا يعتمد على المنابر الخطابية التقليدية أو الكتب التكفيرية والمتطرفة؛ لأن جيل الشباب اليوم أقل حضوراً للتجمعات الدينية وأقل اهتماماً بقراءة الكتب المطولة، فأصبحت تلك الجماعات تركز على التفرّد بالمتلقي عبر حساباتها المتنوعة والقيام بغسل دماغه عبر الصور ومقاطع الفيديو التي تعتبر الأكثر تأثيراً اليوم على أفكار الشباب وعواطفهم، فـ«داعش» جمعت الكثير من أتباعها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأثرت على قناعاتهم من خلال لغة العصر: الصور والفيديو، وفي ظل غياب الأمن الرقمي أو السيبراني خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، أزداد النشاط الإرهابي بصورة مذهلة، وتم تجنيد المتطرفين من خلال تجمعات عنقودية منتشرة وكامنة في أصقاع الأرض، أو بواسطة تجنيد «الذئاب المنفردة» وهي الوسيلة الأكثر خطورة في مواجهة الإرهاب.
وأخيراً.. يجب أن تعلم الحكومات وممثلو الديانات والأحزاب والهيئات الدولية أن مواجهة التحريض وخطابات الكراهية الدافعة للإرهاب هي مسؤولية الجميع بلا استثناء، وإعطاء حرية ومساحة تحرك لأولئك الإرهابيين بدوافع إنسانية مزيفة هو تمكين للسرطان من العيش في الجسد وبحماية الأطباء أنفسهم، وهذا لن يسمح بمقاومة الإرهابيين مهما حاولنا فعله من برامج وجهود، كما أن الكيل بمكيالين في التعامل بشدة وعنف مع الإرهاب الإسلامي؛ بينما نغض الطرف عن الإرهاب الصهيوني والمسيحي والبوذي والهندوسي هو ما يجعل عالمنا الصغير؛ خنادق مشتعلة ومصائب مُنتظَرة لا نهاية لها، فالإرهاب المعاصر مهما حاول المرتزقة توظيفه واستغلاله سياسياً واقتصادياً؛ هو أخطر الظواهر التدميرية في العالم، وله وجه واحد عفن ومروّع، سواء ظهر بعمامة سوداء أو ببدلة فاخرة.
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك