
انتهاء الوقف الخيري أو الأهلي هو عبارة عن: انحلال عقدته وزوال حكمه؛ أي انتهاء صفة الحبس والتسبيل، وتلاشي الآثار المترتبة على الحبس والتسبيل من وقت وقوع هذا الزوال. وإذا حدث هذا؛ فإن أول المتضررين هم المستحقون في ريع هذا الوقف، وتتضرر أيضاً المؤسسات الخيرية التي قد تكون معتمدة في تمويلها على عوائد الأوقاف المنتهية أو مرتبطة بها. ولهذا اعتنى الفقهاء قديماً، والقانونيون حديثاً بتوفير أكبر قدر من الحماية للأوقاف وللموقوف عليهم، وللمؤسسات الخيرية في حالة انتهاء أوقافها.
وثمة حالات كثيرة ينتهي فيها الوقف، رغم أن الأصلَ فيه هو التأبيدُ عند جمهور الفقهاء. ومن تلك الحالات التي ينتهي فيها الوقف: أن يغْصبَ الموقوف غاصبٌ، ويتعذر استرداده منه، أو يتعذر أخذ شيء بدله، أو إذا بيع الوقف على سبيل الاستبدال، وضاع ثمن البيع، أو إذا كان الوقف مؤقتاً بمدة زمنية وانقضت هذه المدة، أو إذا أصبح عائد الوقف ضئيلاً جداً؛ والحكم بضآلته لا يكون إلا بموجب قرار جهة قضائية (محكمة التصرفات مثلاً)، فإن حكمت المحكمة بضآلة ريعه؛ فإنه لا يعتبر موجوداً بوجوب هذا الحكم. والقرار الصادر بالانتهاء ليس إلا عملاً قضائياً محضاً لا دخل فيه لغير المحكمة المختصة، كما ذهبت إلى ذلك بعض التشريعات الوقفية الحديثة، ومنها التشريع المصري. أما حالة تعذّر الصرف على مصرف الوقف فلا تنطوي على انحلال عقدته.
وبالنسبة لمؤسسات الوقف، أو المؤسسات الخيرية المعتمدة عليه، فإنه من المتصور قيام حالة تعذر الصرف على المصرف العام الذي تخدمه هذه المؤسسة أو تلك؛ باستثناء ما يدخل ضمن "الضروريات"، مثل: الطعام والشراب والكساء والمسكن والتعليم والعلاج والرعاية الصحية؛ لأن التعذر في أي شيء من ذلك شبه محال. وإن كان من المتصور تعذر الصرف في بلد ما، أو في فترة معينة، أو لفئة محددة، كما أن من المتصور انتهاء الوقف لسبب من الأسباب التي ذكرناها أو لغيرها من الأسباب.
إذا تصورنا إمكانية تعذّر الصرف على "التعليم" مثلاً في بلد ما رغم أن التعليم من الضروريات؛ فإنه يمكن الاحتياط لذلك بالنص في وثيقة الوقف على نقل العائد إلى أقرب بلد آخر للغرض نفسه، وإذا تعذر الصرف على مشروع أو برنامج معين من مشروعات وبرامج دعم التعليم؛ فإنه يحتاط له بالنص في الحجة على وجوب استحداث غيرها تحل محلها لخدمة الغرض نفسه. فإن تعذّر استحداث غيرها، يصرف المخصص لها بالسوية على باقي المشروعات والبرامج، على النحو الذي يوفي بغرض الواقف، وهذا الرأي بنيناه على فتوى للشيخ بكر عطية الصيرفي مفتي الديار المصرية سابقاً (انظر: الفتاوى الإسلامية. مرجع سابق، 4252/ج12). وإذا افترضنا التعذّر التام عن إنفاق العائد في دعم التعليم كمثال على الضروريات، فالقاعدة في هذه الحالة هي أن يصرف العائد على جهة بر لا تنقطع مثل فقراء محلة الوقف، والأقرب منهم فالأقرب، وينص على ذلك في حجة الوقف. والقاعدة في هذه الحالة أنه إذا تعذر الصرف على الجهات الخيرية التي عينها الواقف فإنه يصبح منقطعاً، ويكون مصرفه للفقراء، استناداً إلى فتوى الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية سابقاً (المرجع السابق، ص1318/ج12).
وانتهاء الموقوف قد يكون انتهاء كلياً إذا تعرضت أصوله لجائحة وتمت تصفيتها. وقد يكون مؤقتاً؛ بأن تتوقف أصول الوقف عن إدرار الريع لمدة معينة، ثم تعود بعدها لاستئناف نشاطها ويعود ريعها.
في حالة توقف أصول الوقف كلياً عن إنتاج الريع لسبب أو لآخر من الأسباب المهلكة، فإن المسؤول أو المسؤولين عن النظارة على الوقف يجب أن يقوموا استصلاح تلك الأصول وإعادة إعمارها، فإن تعذر الاستصلاح فإن عليهم استبدال تلك الأصول؛ وذلك بأن يشتري بثمنها عيناً أخرى تقوم مقام الأصل المستبدل، أو أن يستثمر هذا الثمن في مشروعات مربحة، ويكون حكم العين الجديدة حكم العين المصفاة، وشرطها كشرطها من حيث كونها وقفاً، وتسري عليها أحكام الوقف بما يحقق غرض الواقف. واحتياطاً لوقوع هذا الاحتمال يجب أن تتضمن حجة الوقف النص على ذلك.
أما إذا توقفت أصول الوقف لفترة عن العمل، وانقطع عائد هذا الوقف، فهذه حالة تعذر في حصول العائد. قد تستمر هذه الحالة لمدة قصيرة ويعود بعدها الإمكان، فإذا عاد، عاد الأمر كما كان. وقد تستمر لمدة طويلة لا يرجى معها استئناف عمل أصول الوقف، وتتعطل المشروعات والبرامج التي تدعمها عائدات الوقف، ففي هذه الحال يقوم المسؤول عن النظارة باستبدال حصة الوقف، ويشتري غيرها، أو يستثمر ثمنها فيما فيه مصلحة الوقف، ويكون حكمه كحكمه وشرطه كشرطه في دعم التعليم مثلاً. واحتياطاً لوقوع هذا الاحتمال يجب النص على ذلك في حجة الوقف.
وثمة احتمال مفترض لانتهاء الوقف، وهو أن تنقضي الأعيان الموقوفة، ويتعذر الاستبدال فيها أيضاً. في هذه الحالة يؤول مال الاستبدال إلى جهة أخرى (مؤسسة أو جمعية أهلية، أو حكومية) تقوم بدعم التعليم، وهو الغرض نفسه الذي كانت تلك الموقوفات تموله من ريعها، وتحسباً لهذا الاحتمال يمكن أن ينص على ذلك في حجة إنشاء الوقف.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التجارب التاريخية السابقة بشأن إجراء الاستبدال في الوقف قد أظهرت أنه من الممكن إساءة استخدام هذا الإجراء لتحقيق مصالح خاصة لبعض الأطراف والإضرار بمصالح الوقف والموقوف عليه، إلى الدرجة التي قد تؤدي إلى تبديد الموقوف أو اضمحلال عوائده. ولتجنب ذلك فإنه يجب النص على ضوابط لإجراء عملية الاستبدال، وبخاصة ضوابط الحالات التي يجوز فيها الاستبدال، وضرورة الحصول على موافقة جهة قضائية مختصة.
وبالنظر إلى التجربة التاريخية لكثير من الأوقاف فإنها كشفت عن أن ضعف الرقابة وغياب المحاسبة وشكلية الإشراف كلها كانت من أهم أسباب عدم فاعلية الوقف في أداء مهماته، وتعثر مسيرته الخيرية والتنموية المرسومة له في حجة الوقف، وقد يؤدي ذلك إلى انتهاء الوقف وتضرر الموقوف عليهم أفراداً أو مؤسسات. ولم تثبت فعالية مبدأ "أن ناظر الوقف أمين وليس ضامناً"، بل أسهم هذا المبدأ في ضياع أصول الموقوفات واندثارها. وقد دفعت هذه الحالة السلطات الحكومية في كثير من الحالات للتدخل في شؤون الوقف لضبط أنظمته وتصحيح مساره، ولكن هذا التدخل لم يخل من السلبيات، وأضحى ضرره أكثر من نفعه في بعض البلدان؛ حيث أصاب الوقف علل البيروقراطية الحكومية وما تعانيه من جمود وتعقيدات وحيل لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد.
وقد أضحت عمليات الإشراف والرقابة والمحاسبة من أدوات ضبط الأداء في المؤسسات والمصالح الحكومية والأهلية بصفة عامة، وأمست مؤسسات الوقف في أشد حاجة إليها، وبخاصة بعد حياة الواقف وزيادة احتمالات تعرض أصول الوقف وأعيانه للاندثار والدخول في حالة "الانتهاء"؛ وهو ما يمكن تحاشيه إلى حد كبير باعتبار أن عمليات الرقابة والمحاسبة وسائل لتصحيح الأخطاء ومواجهة أي انحرافات قد تقع لسبب أو لآخر.
ولتحقيق أعلى مستوى من الإشراف والرقابة والمحاسبة فإنه يجب أن تتضمن حجة الوقف النص على ضرورة وجود رقابة ومحاسبة داخلية وخارجية، إلى جانب إشراف المسؤول عن النظارة، أو عن إدارة الوقف عن أعماله وشؤونه المختلفة بصفة عامة. ويجب أن تكون نصوص الرقابة والمحاسبة في صلب حجة الوقف وجزءاً من شروطه واجبة التنفيذ. ومن واقع خبرتنا الطويلة في هذا المجال نقترح في هذا الشأن الآتي:
أ- النص على أن يكون لمؤسسة الوقف إدارة أو مكتب داخلي متخصص في أعمال المحاسبة والشؤون المالية. وأن ينظم أعماله وفقاً للأسس المحاسبية الوقفية المناسبة لطبيعة الوقف ومجال نشاطه.
ب- النص على أن يكون لمؤسسة الوقف مدقق حسابات خارجي ومستقل. وأن يعتمد الأسس المحاسبية المتعارف عليها في مجال الوقف.
ج- النص على أن يكلف مجلس النظارة جهة مختصة ـ داخل مؤسسة الوقف أو خارجها. بإعداد السجلات والدفاتر والقيودات اللازمة لتوثيق وأرشفة المكاتبات الخاصة بالوقف، وإصدار تقرير دوري سنوي يوضح فيه كافة البيانات والإحصاءات والمعلومات والإنجازات الخاصة بمؤسسة الوقف.
د- النص على حظر أي تدخل لجهات أجنبية في شؤون الوقف، بدعوى التفتيش على أعمال المؤسسة، أو بأي صورة من الصور، وأن يكون هذا الاختصاص للسلطات الحكومية المحلية وحدها.
هـ- النص على أن يقوم مجلس النظارة بتكليف جهة مختصة بإنشاء موقع على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) باسم الوقف أو باسم "مؤسسة الوقف"، ليكون قناة للتواصل الفعال والسريع، وليقوم بنشر المعلومات التي تُعرف بمؤسسة الوقف وما تقوم به من مشروعات وبرامج في هذا المجال.
و- النص على أن تلتزم مؤسسة الوقف بالتعليمات والتوجيهات المحاسبية والرقابية التي يقوم مجلس الأوقاف الأعلى بهذه الدولة أو تلك بتعميمها، وأن تقدم له جميع البيانات والتقارير التي قد يطلبها؛ حيث يختص مجلس الأوقاف كجهة رسمية عادة وفي أغلب بلدان الأمة الإسلامية بالإشراف على جميع الأوقاف الخيرية، مع عدم الإخلال بشروط الواقفين وفقاً لما هو معروف في فقه الوقف.
إن ما سبق من صور الحماية للأوقاف في حالة تعرضها للانتهاء يهدف بالدرجة الأولى إلى حماية المستحقين من أن تتعرض حياتهم أو مصالحهم للضرر الجسيم، ومعلوم أن أغلب أغراض الوقف ومؤسساته الخيرية تتجه لخدمة الفئات الضعيفة والمهمشة من الفقراء واليتامى والمساكين والأرامل وذوي الحاجات والمرضى، كما تتجه لخدمة المؤسسات الاجتماعية التي ترعى هذه الفئات، أو تنهض بمهمات التعليم والتثقيف والرعاية الصحية. وقد أضحى للقطاع الأهلي ومؤسساته المدنية التطوعية دور كبير في هذا المجال وفي غيره من المجالات الخدمية في ظل التخفيض المنظم والمتوالي في النفقات الحكومية العامة، وتحت تأثير الانسحاب التدريجي للدولة من قطاع الخدمات والرعاية الاجتماعية.
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك