
الهجرة النبوية الشريفة.. هي الحدث الأبرز الذي أرَّخ وأسّس لمولد دولة الإسلام، فبعد ثلاثة عشر عاما من الدعوة، عانى فيها المسلمون في المجتمع المكي من صنوف شتّى من الاضطهاد والعنت والإيذاء، كان لا بد لهم أن يُغيِّروا تلك البيئة التي تحارب دعوتهم، وتحاول قتلها في مهدها... والبداية كانت حين استعصت مكة على الدعوة الإسلامية، وغَدَت أرضا جدباء، طلب الرسول صلى الله عليه وسلم النُّصرة خارجها، فولَّى وجهه الكريم تلقاءَ مدينة الطائف، لكن ثقيفا أساءت استقباله، وأخرجته إخراجا لا يليق، فاختار له ربّه عزّ وجلّ بُعيد سنوات قليلة مكانا أكثر ملاءمة كي يحتضن الرسالة ونبيها وأبناءها، هو يثرب، ومن هنا يمكننا أن نقول أن الهجرة تعتبر هي نقطة التحوّل، ومرحلة تحويل الدعوة إلى دولة...
فماذا يقول علماء الأزهر بالمناسبة؟..
جمعة
{ بداية أكد د. علي جمعة - مفتي مصر السابق - أن للهجرة معنى مهماً في ذاته نراه عند جميع الأنبياء، فإبراهيم هاجر طلبا للإيمان، وموسى هاجر إلى أرض مدين طلبا للأمن، وإسماعيل هاجر إلى أرض مكة لإقامة البيت على قواعده، ويعقوب هاجر إلى مصر للحاق بيوسف وأخيه، وهكذا لو تتبعنا هجرة الأنبياء لوجدناها كانت لأغراض كثيرة، فأصبحت منهج حياة لطلب الرزق أو لطلب العلم أو لطلب الأمن أو لطلب الإيمان أو غير ذلك، ولذلك كان لا بد أن يكون للهجرة معنى مستمر لمكانتها المهمة من الدين سواء أكان أحدنا ينتقل من مكان إلى مكان أو من حال إلى حال، أما الانتقال من مكان إلى مكان، فقد ورد أنه إذا رأى المرء منكرا فليزله أو فليزُل عنه، وهذا منهاج قوي في مقاومة الفساد وعدم الرضى به، يرتبط ارتباطا عضويا مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما طوّره المسلمون قديما في نظام الحسبة وحديثا في المؤسسات الرقابية.
وأَضاف: أما الانتقال من حال إلى حال فيتمثل في التوبة والرجوع إلى الحق وعدم اليأس من الوقوع في فعل الذنب لأن الاستمرار فيه أشدّ من الوقوع فيه، وقضية التوبة هذه هي أساس الرقابة الذاتية للإنسان على نفسه كما قال عمر بن الخطاب في خطبته «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر، يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية»، وعلى هذا المفهوم فإن الهجرة أمر مستمر يدخل في الحياة اليومية للمؤمن، فضلا عن أن مفهومها من ناحية أخرى واسع لا يقتصر على النُقلة المكانية، وقد أصبحنا في أشدّ الحاجة إلى هذا المفهوم في عصرنا الحاضر حيث يشمل مقاومة الفساد والإفساد.
مشدّدا على أن هناك العديد من الدروس المستفادة من الهجرة النبوية، ومن الضروري أن يستفيد المسلمون منها في الوقت الحاضر، حيث تُعلّمنا الهجرة أن الإنسان إذا تنازعت فيه النوازع الأرضية والنداءات السماوية، عليه أن يؤثر الجانب الأسمى والأبقى فلا أحد يستطيع أن ينجّيه من عذاب الله، فالهجرة في حقيقتها هجران للباطل وإنتماء للحق، وابتعاد عن المنكرات، وفعل للخيرات، وترك للمعاصي، وإنهماك في الطاعات، كما تُعلّمنا الهجرة من خلال الخطة المحكمة التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم، أن استحقاق التأييد الإلهي، لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه، وتوفير وسائله، لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم خطةً محكمةً لهجرته، حيث كتم تحرّكه، وقصده واستأجر دليلا ذا كفاءة عالية، واختار غار ثور، الذي يقع جنوب مكة تضليلا للمطاردين، وحدّد لكل شخص مهمةً أناطها به، فخصّص واحداً لتقصّي الأخبار، وآخر لمحو الآثار، وثالث لإيصال الزاد، ثم إنه كلّف سيدنا عليا كرَّم الله وجهه أن يرتدي برده، وينام على سريره تمويها على المحاصرين الذين أرادوا قتله، وبذلك أعدّ النبي صلى الله عليه وسلم لكل أمرٍ عدّته ولم يدع مكانا للحظوظ العمياء، لقد اتخذ الأسباب وكأنها كل شيء في النجاح، ثم توكّل على الله وكأنها ليست بشيء لأنه لا قيام لشيء إلا بالله، واليوم إذا أراد المسلمون، أن ينتصروا على أعدائهم، وأن يستعيدوا دورهم القيادي بين الأمم، عليهم أن يستوعبوا جيدا هذا الدرس البليغ الذي علّمنا إيّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال هجرته، وهو أن التوكّل في حقيقته أخذ بالأسباب، من دون الاعتماد عليها، وافتقار إلى تأييد الله وحفظه وتوفيقه، من دون تقصير في استجماع الوسائل.
هاشم
{ أما د. أحمد عمر هاشم - رئيس جامعة الأزهر الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية فقال بدوره: الهجرة النبوية تمثّل حدثا مهما في التاريخ الإسلامي والبشري، لأن بالهجرة تمَّ قيام الدولة الإسلامية على أسس قوية، وتمّ فيها توثيق الصلة بالله ببناء المسجد وتوثيق الصلة بين المسلمين بالمؤاخاة وتوثيق الصلة بالآخر في صحيفة المدينة، وبالهجرة أرسى النبي صلى الله عليه وسلم العديد من القيم الإسلامية في مقدّمتها الصلة بالله، والارتباط به والاستمرار في معيّته فإن من كان في معيّة الله لا يخشى أحدا سواه بل يظل في رعاية مولاه وفي عناية ربّه فلا يخاف ظلما ولا هضما ولا يخاف من العدو بخسا ولا رهقا. وقد رأينا أثر المعيّة الإلهية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول له: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا».
مشيرا إلى أن من بين القيم التي أرستها الهجرة النبوية أنها أوضحت للبشر كافة عظمة هذا الدين، وأنه يرعى الحقوق ويصون الأمانات ورغم أن المسلمين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وبرغم ما صنعه المشركون معهم من الإيذاء ومن أخذ الأموال فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر استخلف علي بن أبي طالب ليردّ الودائع لأصحابها، وليعطي الناس أماناتهم ونفائسهم التي كانوا قد تركوها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأضاف: ومن القيم العظيمة التي أبرزتها الهجرة النبوية الحفاظ على الأمة من الأخطار ومن عدوان الأعداء والحرص على اجتماع الشمل، وتجلّت هذه القيمة في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن أول المهاجرين، ولم يكن وسطهم ولا معهم بل كان من آخر المهاجرين، فقد أذن لأصحابه أولا بالهجرة بعد ان اطمأن على أمنهم وسلامهم وطمأنينتهم حيث تمّ عقد بيعة العقبة الأولى والثانية، وأرسل بعض المبعوثين من قبله لأهل المدينة وهو مصعب بن عمير رضي الله عنه ليعلّم الناس هناك أمور الإسلام وعباداته ومهّد الحياة للمهاجرين واطمأن على سلامتهم وجعلهم يهاجرون سرّا حتى لا يتعرّض أعداء الإسلام لهم بالإيذاء، وبعد أن اطمأن على هجرتهم هاجر هو بعد ذلك ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك