
الشيخ د. يوسف جمعة سلامة*
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
لقد كرَّم الله سبحانه وتعالى الإنسان ورفع قدره، فالإنسان هو سيّد هذا الكون، خلقه الله بيده، ونفخَ فيه من رُوحه، وأسجدَ له ملائكته، فكلّ ما في الكون مُسَخّر لخدمته، ومن المعلوم أنَّ كلَّ دارسٍ للشريعة الإسلامية يعلم أنَّ لها مقاصد تتمثل في حماية حياة الإنسان ودينه وعقله وَمَالِهِ وأسرته، فَمِنْ أول مقاصد الشريعة الإسلاميّة صيانة الأركان الضروريَّة للحياة البشرية، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وقد بيَّن الإسلام الأحكام الفقهية التفصيليّة التي تُمَثِّل سِيَاجاً لصيانة هذه الضرورات وكيفيّة حمايتها والمحافظة عليها، حيث ذكر الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «المستصفى» أنَّ حرمة الضرورات الخمس لم تُبَحْ في مِلَّةٍ قط، وقال بذلك الإمام أبو اسحاق الشاطبي في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة»، ومن المعلوم أنَّ هذه الأمور لاَ بُدَّ منها لإقامة الحياة الصالحة، فإذا فُقِدَ بعضها انهارت الحياة الإنسانيّة أو اختلت وفسدت.
ومن الجدير بالذكر أن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف قد جاءت جميعها لمصلحة الإنسان ومن أجل خيره وسعادته في دنياه وأخراه، ومن هنا فإن ديننا الإسلامي يُحَرِّم كلَّ ما من شأنه أن يجلب على الإنسان ضرراً مادياً أو معنوياً.
نعمة الصحة
إنّ نعمة الصحة من أَجَلّ النّعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على عباده بعد تقوى الله، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)، وقوله: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافىً فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)، فالصحة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالدين، فالمؤمن القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، ومن المعلوم أن الخلافة في الأرض والقيام بحمل الأمانة التي أوكلها الله للإنسان في الدنيا، تحتاج إلى الأقوياء القادرين على خدمة دينهم ووطنهم وأنفسهم.
ومن سُنَنِ الله – عزّ وجلّ – أن البقاء في الكون للأصحاء الأقوياء، فهم الذين يستخلفهم الله في الأرض فيعمرونها، ويصلون إلى خباياها وأسرارها، ويكشفون عن خيراتها وكنوزها، وأنه ما ارتقتْ أُمَّةٌ ذروةَ المجدِ إلا بقوة أبنائها وصحة أبدانهم؛ لأن ذلك وسيلة إلى سلامة عقولهم ونضج تفكيرهم، ومضاء عزائمهم وسداد أعمالهم، لذلك كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يسأل الله العفو والعافية، قائلاً: (سَلُوا اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ، فإنَّ أحداً لمْ يُعْطَ بعدَ اليَقِينِ خيراً مِنَ العَافِيَةِ).
الوقاية خير من العلاج
تتناقل وسائل الإعلام يومياً خبر انتشار فيروس كورونا في العالم، حيث يستمر ارتفاع عدد المصابين والوفيات جَرَّاء هذا الفيروس، في وقت تُخَصّص فيه وسائل الإعلام صفحاتها وشاشاتها لمناقشة تداعيات انتشار الفيروس على الصحة العامة وعلى الحياة اليومية للبشر.
ومن المعلوم أن ديننا الإسلامي الحنيف قد اهتم بصحة الأفراد والجماعات، حيث وضعَ لها الضوابط اللازمة وأمرَ بمراعاتها والعناية بها، فالإنسان إذا أصابه شيءٌ من الأمراض المُعْدية، فعليه أن يتجنَّب مخالطة الآخرين؛ حفاظاً على صحتهم وحرصاً على سلامتهم، ودفعاً للضَّرر عنهم، كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ)، ويشمل ذلك كلّ الأماكن العامة، ومِمّا يُحافظ به المرءُ على سلامة غيره، ويَحُولُ دون انتشار الأمراض، أن يلتزم إذا عَطَس بالهدي النبوي كما جاء في الحديث: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا عَطَسَ، غَطَّى وجهَه بيدِهِ أو بثوبِهِ)، ومن التوجيهات النبوية في مواجهة الأوبئة تحجيمها وعدم انتشارها، فالوباء إذا حَلَّ بأرضٍ، لم يخرُجْ منها أحدٌ كان فيها فراراً منه، لئلاَّ يكون حاملاً للوباء فينشُرهُ في الناس، ولا يقْدُمُ عليها أحدٌ ممَّن هم خارجها، حفظاً للنَّفس من أسباب التهلُكة، كما جاء في الحديث الشريف: (إذَا سمِعْتُمْ بالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا).
يجب علينا ملاحظة عَجْزِ البشر بِدولهم وأطبائهم ومختبراتهم وبإمكاناتهم، عن محاصرة فيروس صغير وضعيف يتنقل بين الدول، وَيَشُلّ الاقتصاد ويُغلقُ الحدود، فالإنسان الذي ظنّ أنه مَلَكَ الدنيا وأنه قادرٌ على أن يفعل ما يشاء، تراه ضعيفاً أمام قوة الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}، فهذا فيروس لا يُرَى بالعين يتحرك بالخلايا والدم فَيُؤَثّر في الإنسان وَرُبّما يُؤَدي إلى الوفاة، فالإنسان مهما بلغ من القوة فهو ضعيف أمام قدرة الله سبحانه وتعالى.
إرشادات إسلامية للمحافظة على الصحة
إن اتباع النصائح الطبية، يعزز أسباب الوقاية الصحية، وعدم اتباعها يؤدي إلى نتائج مهلكة، فقد أصدرت وزارة الصحة تعليمات وقائية منها: ضرورة تَجَنُّبِ الزّحام، وعدم مُخالطة المصابين بأمراض مُعْدية، والاهتمام بالنظافة وغسل اليدين بالماء والصابون، وتغطية الفم والأنف بمنديلٍ عند السُّعَال أو العُطَاس، والاكتفاء بإلقاء التحية، وتجنُّب السلام باليدِ أو عِنَاقِ الآخرين أو تقبيلهم، فمن واجبنا الالتزام بكافة هذه التعليمات، فذلك مطلب شرعي وواجب وطني.
ومن الجدير بالذكر أن الأمراض كّلها بقدر الله سبحانه وتعالى فلن يُصَابَ أحدٌ إلا بما كتبه الله عليه، فقد جاء في الحديث الشريف: (... واعلمْ أنَّ مَا أصَابَكَ لم يَكُنْ ليُخطِئَكَ وما أخطأكَ لم يكنْ ليصيبكَ).
إن المؤمن في هذه الدنيا معرّض للبلاء كالمرض وغيره، لذلك فالواجب على الإنسان المؤمن أن يتبع التوجيهات النبوية في هذا الأمر، وذلك بأن يُبَادر بالتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى واللجوء إليه بالدعاء والاستغفار؛ فالدعاء لرفع الوباء مشروع، وخصوصاً المواظبة على قراءة أذكار الصباح والمساء، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن نَزَلَ مَنْزِلاً، فَقَال: أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شيءٌ، حتَّى يَرْتَحِلَ مِن مَنْزِلِهِ ذلكَ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن البَرَصِ، والجُنُونِ، والجُذَامِ، وَسَيِّئِ الأسْقَامِ).
دعوة الإسلام إلى النظافة
لقد أَكَّدَ ديننا الإسلامي الحنيف على أهمية العناية بالنظافة، حيث جعل طهارة الجسم التامة أساساً لا بُدَّ منه لكل صلاة، وجعل الصلاة واجبة خمس مرات في كلِّ يوم، فالصلاة تُعَلّمُ الإنسان دروساً عديدة، منها: الحرص على الطهارة العضوية والقلبية، والترتيب والنظام، والعمل بروح الجماعة.
ومن المعلوم أن ديننا الإسلامي قد حثَّ على النظافة وَأَمَرَ بها، وعُني بنظافة البيت وساحاتِه وأفنيتِه، كما جاء في الحديث الشريف: (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا - أُرَاهُ قالَ - أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ)؛ لذلك فإن الواجب علينا ضرورة المحافظة على البيئة والصحة العامة وإماطة الأذى عن الطرقات، وعدم التبول والتبرُّز في الماء الراكد، والظلّ الذي يجلسون فيه، والطرق والأماكن التي يرتادها الناس، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ؛ الْبرَازَ في الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلّ)، وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ).
كما حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك آنية الطعام والشراب مكشوفة عرضةً للهواء، وللحشرات الناقلة للأمراض، لقوله: (غَطُّوا الإنَاءَ، وأَوْكُوا السِّقاءَ،)، كما نهى صلى الله عليه وسلم أن يَتَنَفَّسَ الشاربُ في الماء، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ)، لأن هواء الزفير يُلَوّثه وَيُفْسده، وَيُسَنُّ للشارب أن يشرب على ثلاث دفعات، يَتَنَفَّس في نهاية كلٍّ منها خارجَ الإناء.
يجب أن نعي بأن الإسلام العظيم قدْ سبق الأنظمة الوضعية في المحافظة على حياة الفرد وعلى سلامة المجتمع، وعلينا أن نعي أيضا بأن صحة الأبدان من صحة الأديان، وأن المؤمن القوي في عقيدته ودينه وأخلاقه وصحته وعافيته أحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير.. ونسأل الله تعالى أن يُمتعنا جميعاً بالصحة والعافية، وأن يصرف عنا الوباء والبلاء، إنه سميع قريب.
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك