
لم يوفر الفساد السياسي أي من دول العالم وعبر التاريخ باعتباره ظاهرة منتشرة طالت المجتمعات كافة ولم يثبت أنه يمكن الحدً منها سوى من خلال اداتين اساسيتين: القوانين الرادعة والقيّم الاخلاقية. لقد ارتكزت منظومة الفساد اللبنانية على مبدأ تشارك السلطة بين اطرافها وما اصطلح على تسميته "الديمقراطية التوافقية" في حين أن التعريف الافضل له هو "المحاصصة".
بالمقابل، أثبت ثورة 17 تشرين وجود ثنائية ميمية (تبدأ بحرف الميم) تتحكم برقاب البلاد والعباد هي : "المافيا" و"المليشيا" اللتان قادتا البلاد الى حيث هو في هوته السحيقة. بالتكافل والتضامن، دأبت هذه الثنائية على تقديم الدعم المتبادل والتغذية الراجعة لمكوناتها: فتارة تغض المافيا السياسية نظرها عن السلاح المليشياوي مقابل الحصول على مكاسب تقاسم الكعكة الحكومية من مناصب وسمسرات وتعيينات ونفوذ. وقد قامت هذه المافيا السياسية بسن القوانين وصياغة البيانات الوزارية المتلاحقة ذوداً عن المليشيا باعتبارها مشروعة برغم تناقضها مع الدستور والميثاقية. وطوراً تقدم المليشيا العسكرية وشبه العسكرية خدماتها للمافيا السياسية فتؤمن لها الحماية عند الحاجة في وجه من يريد التغيير او من يريد إزاحتها عن كرسي الحكم التي تسحق من خلال طبقات الشعب اللبناني. فنرى تلك المليشيا تصول وتجول لوضع شروط اللعبة مع المافيا ووضوع حدّ لمن يخرجون أو يحاولوا الخروج عن التوافق الثنائي.
الميم الجديدة التي انضمت الى الثنائية لتصبح ثلاثية هي ميم "ماكرون"؛ عندما وضع سيد الاليزيه قدمه في مطار بيروت يوم 6 آب 2020، كان يحمل في جعبته رؤية معينة لاصلاح الوضع الداخلي وتطبيق جملة حلول للحالة الاقتصادية التي يمر فيها لبنان. ماكرون كان على علم بمنظومة الفساد القائمة في لبنان ولديه تقارير وافية وربما تفصيلية حول حجم السمسرات والزبائنية والمحسوبية (وجميع ما في الحقل المعجمي لدعاة الشفافية والمحاسبة) ما يكبد لبنان خسائر جسيمة يدفع ثمنها اللبنانيون لأجيال قادمة من جيوبهم بفعل تفلت هذه الطغمة الحاكمة من المساءلة الشعبية أو القانونية أو كليهما.
لم يختبأ ماكرون خلف البروتوكلات الفرنسية المعتادة في التعامل السياسي بل كان واضحاً جداً في لقاء قصر الصنوبر حين صارح سياسي لبنان ببعض مما ارتكبت ايديهم. غادر بعدها الرئيس الفرنسي الى باريس معلنا تعهده العمل على اخراج لبنان من حفرته العميقة مشفوعاً بالتهديدات والانذارات المبطنة. خلال 3 اسابيع وبعد مداولات وضغوط دولية ومبادرات اقليمية، لم يخرج من جعبة ماكرون إلا أرنب حل اسمه "مصطفى أديب" توافقت عليه فرنسا والمنطومة الحاكمة في بلاد الارز. لقد جاء أديب الى السلطة ممثلاً لجميع هذه القوى التي دأبت منذ 4 عقود على استنزاف مقدرات البلاد ورهن مستقبله ولكن مجيئه كان بمباركة وربما بطلب فرنسي مباشر ما منحه دفعاً لم يحص عليه سلفه حسان دياب. الخطوة الفرنسية في هذا الاتجاه أشرت الى جملة وقائع:
أولاً، اعتراف ضمني من الجمهورية الفرنسية باستحالة إزالة المنظومة المافيوية التي تحكم ما يسمى بالجمهورية اللبنانية وبالتالي السير بوجه جديد يؤمن استمرارية وديمومة هذه المافيا ولا يحاسبها او يقصيها عن السلطة.
ثانياً، مقاربة فرنسا – ماكرون للتعاطي مع المليشيا كذلك كان تسووياً اي لم ينبس ببنت شفة أو يطلق اي اشارة حول الدور الاكيد لهذه الميليشيا. وهنا قد يأخذنا الحديث الى مصالح فرنسا الممتدة من شرق المتوسط وصولاً الى شرق فارس.
ثالثاً، بات ماكرون شريكاً مباشراً بمنظومة الفساد اللبنانية مع الغطاء الذي يمنحه من جهة لها ومن خلال المنافع السياسية والاقتصادية وغيرها التي ستحصل عليها فرنسا من جهة أخرى.
إذاً، أثبتت الحالة اللبنانية بأنها فريدة من نوعها وفق العلوم الانسانية كافة من الاجتماع الى السياسة فالانتربولوجيا والاقتصاد وغيرها. فقد قامت مافيا لبنان مليشياته بإدخال الدولة الفرنسية ممثلة بشخص رئيسه الى المنظومة الحاكمة على المبدأ الذي يقول: لكل شخص ثمنه. لبنان وصل ترتيبه الى 137 على سلم الفساد العالمي من اصل 180 دولة في أن فرنسا قد تراجعت إلى المرتبة 23 على نفس السلم لهذا العام. وسلم الفساد هذا يشير إلى المستويات المحلية للدولة المعنية لكن يبقى السؤال هل سيتم احتساب وإضافة ما تمارسه فرنسا من فساد خارج اراضيها من خلال انضمام رئيسها الى المنظومة الحاكمة في لبنان ؟ C’est possible
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك