
عندما تلقّى نواب الأمة الدّعوة إلى إجتماع مجلسهم في 27 من الشّهر الماضي، اعتقد بعضهم، كما ظنّ اللبنانيون، أنّ دولتهم تتأهّب فعلًا لإتخاذ قرارات مصيرية، بالتصويت على مشروع قانون، يستأصل الفساد والفاسدين من الدولة والمجتمع، ويقدّمهم إلى قضاء عادل، لكي يعرف اللبنانيون فعلًا أين ذهبت ثرواتهم وجنى أعمارهم، ويعود الحق إلى أصحابه، وذلك بإقرار مشروع قانون يُخضع جميع وزارات ودوائر ومجالس الدولة إلى تدقيق محاسبي، على أيدي خبراء لبنانيين ودوليين محلّفين، من منطلق تعليق العمل بسرّية المصارف.
الذين واكبوا تظاهرة مجلس النواب المشار إليها، التي ظهّرت صورًا عن توافق وإتفاق، لم يكونا منظورين قبل الجلسة بين الكتل النيابية المختلفة أصلًا في مجلس النواب، حتى على تشكيل حكومة جديدة وإنهاء أزمة حكومية خانقة، حيث تبارى الخطباء والمصرّحون بإسم هذه الكتل، في إظهار مدى حرصهم مع زعماء كتلهم والرفاق، حتى تلك التي تمثل أحزابًا، على التوافق والإتفاق، في أمر مواجهة حاسمة ونهائية للفساد والفاسدين لإستئصالهم من البلد، لا سيما وأنّ معظم المتفاهمين والمتوافقين فجأة، يعرفون سلفًا مكامن هذا الفساد ومواطئ أقدام الفاسدين وأصلهم وفصلهم.
تمخض الجبل فولّد فأرًا، كما يقول المثل. إذ أنّ هذه التظاهرة البرلمانية التي كان يُراد لها أصلًا أن تحصر إهتمامها فقط بمصرف لبنان، الذي أقرض وزارات ومجالس الدولة من المال العام، بموجب قرارات اتّخذتها الحكومات المتعاقبة وأحالها وزير المال في كل حكومة إلى حاكم المصرف رياض سلامة، للتنفيذ وفقًا لقانون النّقد والتّسليف، كأنّ الذين طبخوا هذا التّوجه، يدركون بأنّ المراجعة والمساءلة والمحاسبة في هذا المضمار، يجب أن تتوجّه عمليًا إلى المدين، أي إلى الذين تسلّموا القروض التي حصل عليها مصرف لبنان، سواء بالدولار أم باليورو، كي تُنفق على تمويل المشاريع التي خطّطت لها الدولة ووزاراتها ومجالسها، كون أجهزة الدولة هي المستفيد من هذه القروض، وهي من يُشرف على التنفيذ ويؤمّن سلامته وشفافيته، وإذا ما حاول أي كان تجاوز الأمانة، على أجهزة الرقابة في هذه الدولة أن تكشفه وتخضعه للمساءلة والمحاسبة، وهذا ما تقاعس المسؤولون في الرئاسات والحكومات والوزارات والمجالس المتعاقبة عن القيام به، لغاية معروفة في نفس يعقوب؟!
تمخض الجبل فولّد فأرًا، إذ أنّ اللبنانيين انتظروا من هذا الغرام المفاجئ بين الكتل السياسية والحزبية المختلفة أصلًا في مجلس النواب، أن يناقش نواب الأمة، الذين دخلوا مجلسهم متخاصمين وظهروا متوافقين متفقين، أن ينسحب كل هذا التوافق على مشروع قانون يعدّل قانون النقد والتسليف والمادة المتعلقة بالسرّية المصرفية فيه، لأنّهم جميعهم يعرفون سلفًا، خصوصاً جهابذة علم القانون منهم، أنّ القانون لا يُعدّل ولا يحلّ محلّه سوى قانون وليس قرارًا، كذلك القرار الذي اتُخذ واعتُبر إنجازًا وحلًّا للمشاكل.
المراقبون كانوا يعرفون سلفًا، أنّ خلفية هذا القرار الذي لا مفعول عمليًا له كالقانون، كانت في الأساس ولا تزال إنتخابات الرئاسة الأولى المقبلة، فتحوّل في جلسة مجلس النواب إلى قرار شمولي يطاول التدقيق، فضلًا عن مصرف لبنان، كل الوزارات والدوائر والمجالس. والذين صوّتوا على هذا القرار وهلّلوا له واعتبروه إنجازًا، كانوا يدركون سلفًا بأنّ مفعوله ليس كمفعول القانون، وأنّه ربما يُفسّر بأنّه مجرد ضحك على ذقون اللبنانيين المتعطشين للمساءلة والمحاسبة في هذه الدولة ولو لمرة واحدة، ولأنّهم يعرفون سلفًا بأنّ ملفات طلبات ملاحقة وزراء ومدراء ومسؤولين ورؤساء بلديات في هذه الدولة موجودة ومكدّسة من زمان في أرشيف النيابة العامة المالية، بشهادة النائب العام المالي الرئيس علي ابراهيم، وفي التفتيش المركزي والقضائي، امتنع رؤساء ووزراء عن إعطاء الإذن بملاحقة الضالعين فيها منذ ثلاثين سنة ونيف، عن سابق تصور وتصميم.
حبّذا لو أنّ التوافق الذي تجلّى بين الكتل النيابية في تلك الجلسة الماراتونية، انسحب على الحكومة العتيدة، التي انتظر اللبنانيون مع الرئيس المكلّف سعد الحريري تشكيلها ولا زالوا، بدل الضياع في دهاليز ومغاور المحاصصة والمصالح الخاصة.
الجميع يعرفون كما أشرنا، أنّ القانون لا يحلّ محله سوى قانون، كان على مجلس النواب، ولا يزال أن يضعه ويوافق عليه ويُنشر في الجريدة الرسمية ليُبنى على الشيء مقتضاه. وإلّا لا إصلاح ولا تغيير، حلم اللبنانيين في ليلة صيف. ومن دون استبدال القرار بالقانون «ماكو إصلاح أو تغيير».
يبقى السؤال مطروحًا حول ما إذا كان المشرّعون مستعدّين لتحمّل أعباء الكشف عن حرامية المال العام، لأنّ الكشف على حسابات مصرف لبنان يكشفهم ويعرّيهم ويقودهم حتمًا إلى بيت خالتهم.
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك