
لم يكن من الصعب استشراف التحوّلات ومخاطر الإنهيارات التي تعصف بلبنان وتنذر بمآزمه الكبرى قبل نشوب ما صار يسمّى ب الحراك المتحرّك بين الإنتفاضة و«الثورة» منذ السابع عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019. خمدت الثورة وهمدت ولنقل بأنّها تشظّت، وصارت الأعين والأذهان اللبنانية تقرأ المستقبل عبر نوافذ قصر الإليزيه والبيت الأبيض أو الأحمر أو الأصفر .
تصوّروا أنّ لبنان وتأليف الحكومة اللبنانية إجتاحا الإهتمام الفرنسي- المصري أثناء زيارة الرئيس عبد الفتّاح السيسي ولقائه الأوّل مع إيمانويل ماكرون (6/12/2020). بدا لبنان وكأنّه البند الأوّل في جدول أعمال الرئيسين إثر خروجهما إلى الصحافة عند اختتام الزيارة. لقد أورث إنفجار المرفأ أحياءً مدمّرة وأدراجاً وكنائس ومستشفيات محطّمة فوق أهاليها وبان العالم على الشاشات مذهولاً ومشغولاً بتخليص اللبنانيين خلافاً لحكامهم الغائبين كليّاً إلاّ عن «مسرحيات» تناكفهم اليومي المضنك والقهّار.
صحيح أنّ العلاقات الفرنسية المصرية عريقة في التاريخ تعود إلى 231 سنة، عندما وصل نابليون بونابرت إلى مصر( 1789) وبرفقته مستشاران لبنانيان ، وحظيت العلاقات بتألّقها مع شارل ديغول( 8/1/1959- 28/2/1989) لتتراجع مع نيكولا ساركوزي (16/5/2007-15/5/2012) ثمّ تنحدر مع فرانسوا هولاند ( 15/5/2012-14/5/2017) الذي ناصر الإخوان المسلمين، وصحيح أنّ لزيارة السيسي أبعاد على علاقة مباشرة بمساعدة فرنسا لمكافحة الإرهاب الأتي من الجنوب ومصر هو البلد الوحيد من بلدان شمالي أفريقيا، الذي لم يستقل أبناؤه القوارب المطّاطية هاربين وعابرين مياه المتوسط شمالاً نحو أوروبا وتحديداً نحو إيطالية وفرنسا. الأصح من هذا كلّه، أنّ ملفّات الأزمة الليبيّة والخلافات بين فرنسا وتركيا تفاقمت بعدما أدمن رجب الطيّب آردوغان آردوغان القفز شاباً في الملاعب الرياضيّة راح يقفز فوق مياه شرق المتوسط وكلّ هذه الملفّات قد تمّ تغييبها حتّى تلك السياسية والإقتصادية والعسكرية والثقافية والعلمية وعلوم الآثار الخاصّة بالبلدين التي ناقشها الرئيسان الفرنسي والمصري قطعاً لكنهما تجاوزا الإفصاح عنها للتوصية فقط بلبنان»العظيم» وحكومة لبنان «الأعظم».
عن أيّ لبنان يبحث المصري والفرنسي والعربي والخليجي والأميركي والسعودي والإيراني والعالم إن بان حكّام لبنان لا يبحثون عن شيء إلاّ عن مصالحهم وستر عريهم وتقاتلهم الممجوج على جيفة الوطن المذبوح؟
أيمكنناأن نتصوّرالمشاهد المخيفة المنتظرة؟
الأصعب والأغرب وغير المفهوم جدّاً هو تجويف مفهوم الفرنكوفونيّة وتحقيرها في تحليلات بعض اللبنانيين وهو ما نشهده حتّى في الشاشات والمعاهد والجامعات. هناك احتقار عتيق وتناول موسوم بروائح طائفية بغيضة عند توصيف «الفرانكوفونية» بالإستعمار أو وصم الناطقين بالفرنسية بالعمالة لفرنسا الإستعمارية. هذا تراجع ثقافي بل تخلّف فكري مخجل. إنّ معظم اللبنانيين وطلاّبهم وأساتذتهم والمقيمين فيها هروباً من جحيم لبنانهم لا يضيرهم بل لا يعنيهم مطلقاً، نعتهم بالإستعماريين فقط لأنهم تعلّموا وعلمّوا وعملوا ويعملون في فرنسا.
عندما سألتني الإعلامية اللامعة غابي لطيف في مقابلةٍ طويلة على إذاعة مونتي كارلو عن نظرتي لفرنسا التي علّمتني وعملت فيها أجبت بعفوية الطفل : «إنّني مسكون بفرنسا».
وعندما تسلّم بطرس بطرس غالي منصب الأمين العام للمنظّمة الفرانكوفونيّة ( 1998- 2002) غصّ معظم اللبنانيين والمسيحيين وكأنهم فقدوا مرجعيتهم المعروفة ب»الأم الحنون»، مع أنّ الإهتمام الفرنسي تحوّل بمعظمه نحو جنوبي لبنان بعد حرب ال2006 . ليس مبرّراً تناول البعض للتاريخ اللبناني وحصره باحتقار وإنكار وبردود فعل طائفية نزقة للإحتفالات التي لم تتم بمرور مئة عام على إنشاء «دولة لبنان الكبير» (20/9/1920) وكأنّها أصيبت بالعين اللبنانية لا بالكوفيد، وليس مفهوماً أبداً شجب إهتمام ماكرون الملحاح الذي كان منتظراً وصوله إلى لبنان اليوم قبل عيد الميلاد مسكوناً بمساعدة اللبنانيين الذين أصابوه أيضاً بالعين، وكأنّهم قد استطابوا رؤية لبنان على أبواب «جهنّمٍ» لا مثيل له.
كان لا يمكنني، وبتواضعٍ جمّ، فصل الإنهيارات المنتظرة عن الفشل والإنهيارات السياسية الواضحة في الأفق. كان لا بدّ من توقّع التغييرعبر طالباتنا وطلاّبنا في الجامعات وهم يستلهمون جذوة العاميّة الكبرى لتعمّ الأرجاء اللبنانيّة لكنها خبت بعدما نخرتها مجدداً سوس الأحزاب وقمع أمن السلاطين، فأصبح لبنان مساحات متقطّعة سياسية وإعلامية فارغة مركونة بفتح السجالات والصراعات السياسية من دون أي جوابٍ مطمئن عن السؤآل إيّاه: ما هو مستقبل لبنان؟
لطالما كتبت ونبّهت إلى المخاطر المحدقة بلبنان أكثر ممّا تنفّست فيه، وقمت في زيارات رسميّة للمسؤولين وخاطبتهم سرّاً وعلناً بإعادة الأموال التي دفشوها نحو الخارج، ولطالما شرحنا في الجامعات والإجتماعات والمحاضرات والمناسبات واللقاءات الإعلاميّة والمذكّرات والدراسات التي أرسلناها وسلّمناها إلى المسؤولين في الدولة اللبنانية وأرسلناها إلى المنظّمات الدولية، ونشرنا عيّناتٍ منها في مختلف وسائل الإعلام وعلى صفحات وسائل التواصل الإجتماعي باسم مؤسسي» التجمّع الأكاديمي لأساتذة الجامعات في لبنان»، لكن من دون أيّ إهتمامٍ أو تجاوب مسؤول يرثي رقع الوطن. من يرثيها وقد صرنا في العراء الدولي؟
ها نحن ندور اليوم مثل أحجار المطاحن بحثاً عن تخليص وطنٍ يشبه الغابةٍ الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك