قبل أشهر، اقترحتْ إحدى الصفحات الموالية لنظام الأسد إقفال "الندوة" (مكان بيع الأطعمة والمشروبات) في المدارس الابتدائية في سوريا، وذلك لكي لا يشتهي الأطفالُ طعامًا لا يملكون ثمنه!

وقبل أيام، سرَّبتْ صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية (23 شباط 2021)، تفاصيل اجتماعٍ غير معلن، طلبَ فيه بشار الأسد من الإعلاميين الموالين الذين اجتمع بهم، إلغاء برامج الطبخ التلفزيونية لـ"عدم إزعاج السوريين بصور أطباق لا يمكنهم الحصول عليها لارتفاع ثمنها"!!

المشكلة في منظور الأسد ونظامه لا تكمن في نقص الطعام والخبز في البلاد، بل في برامج الطبخ وندوات التلاميذ التي تُذكِّر السوريين بأنهم جوعى ولا يملكون ثمن الطعام!

التقرير الذي أعدَّه مؤخَّرًا برنامج الأغذية العالمي (WFP)، التابع لـ"الأمم المتحدة"، والذي يؤكِّد بأنّ سوريا تعيش "أسوأ حالة أمن غذائي"، أحصى ما يزيد عن 12.4 مليون سوري (ما يعادل 60 % من السكَّان) ممّن يعانون انعدام الأمن الغذائي.

وبحسب ممثِّلة "منظمة الصحة العالمية" في سوريا، أكجمال ماجتيموفا، فإنَّ 90 % من السوريين يعيشون تحت خطّ الفقر، ما يجعل سوريا متصدِّرةً بجدارةٍ قائمةَ الدول الأكثر فقرًا في العالم.

وجود هذه الحقائق ليس هو المهم بنظر الأسد، بل تسليط الضوء عليها!

فلا بأس بأن يصبح الطبخُ حلمًا لدى العائلة السورية، ولكن لا يجوز تذكير تلك العائلة بأنَّ هذا "الحلم" هو حقّ طبيعي لجميع الناس.

ولا بأس أن ينام المواطنون جوعى ويُصبحوا جوعى، ولكنّ الأهمّ ألا يتمّ تذكيرهم بصور الأطباق التي كانوا يتناولونها في الماضي.

ولا بأس بأن يغدوَ منظر نبش حاويات القمامة بحثًا عمَّا يسدُّ الرمق مشهدًا عاديًّا ومألوفًا في البلاد، ولكن لا يمكن التساهل مع من يقوم بتصوير مثل هذه المشاهد ونشرها.

إنَّ الأسد ينظر إلى كلّ ما يُذكِّر السوريين بحقيقة حالهم على أنّه جزءٌ من المؤامرة التي تُحاك ضدَّه. ولذلك صارت وسائل التواصل الاجتماعي العدوَّ الأول بالنسبة إليه، حتّى أنّه لم يعد يوفِّر فرصةً لمهاجمتها والتحذير منها، وهو المعروف عنه هَوَسُه بمتابعتها. بحسب تسريبات "نيويورك تايمز" اعتبرها السبب الثاني بعد "وحشية الرأسمالية العالمية" في الكارثة الاقتصادية السورية، ملخّصًا دورها – أي دور وسائل التواصل – بكلمتَيْن: "غسل الدماغ"

ومع تفاقم الكارثة الاقتصادية، أصاب هذا "الهوسَ" انحرافٌ كبيرٌ جعل اهتمام الأسد ينتقل من متابعة الصفحات المعارضة إلى متابعة الصفحات الموالية التي بات صوتها يعلو يومًا بعد آخر. لذلك – وبعدما كنَّا نسمع عبارة "الحرّية لفلان" وقد ارتبطت بأسماء المعارضين المعتقلين – صرنا نسمعها، وقد ارتبطت بأسماء الموالين المعتقلين، وغالبيتهم من نشطاء "الفيسبوك" الذين يحتجُّون على اتّساع رقعة الفساد والمجاعة. (في الفترة الأخيرة اعتقل نظام الأسد المذيعة هالة الجرف، وهي واحدة من أقدم المذيعات في التلفزيون الرسمي، بسبب منشور كتبته على صفحتها عن حالة الفساد، وقد تمَّ هذا الاعتقال ضمن حملة اعتقال جماعي لنشطاء موالين اعترفت بها وزارة داخلية الأسد في بيانٍ حدَّد اعتقال ثمانية أشخاص بـ"جرم التواصل والتعامل مع مواقع إلكترونية مشبوهة (...) لإحداث البلبلة"!!).

بالنسبة إلى الأسد، صار حديث السوريين في السياسة أهون عليه، ألف مرَّة، من حديثهم في الاقتصاد، تمامًا كما صار بثّ برنامج سياسي على التلفزيون الرسمي أهون عليه، ألف مرَّة، من بثّ برنامج للطبخ.