
لو خيرت بين أخذ مليون دولار، أو مليون ليرة، فستختار حتما المليون دولار، لأن خاصية العقل: تقديم أعلى المحبوبين، على أدناهما.
ولو تعرض ولدك لحادث سيارة، وكانت نجاته متوقفة على إجراء عملية وقف نزيف داخلي فورية، فلن تتردد في الموافقة عليها، مع ما يسببه ذلك له ولك من آلالام، لأن خاصية العقل: احتمال أدنى الألمين لدفع أعلاها.
والسؤال الآن هل يطبق أكثر الناس هذه القاعدة في التعامل مع الدار الآخرة؟
الجواب: لا، بدليل أن الله سبحانه وضعهم أمام محبوبين لهم: محبوب الحصول على شهوات محرمة حقيرة، منقوصة، فانية في الدنيا، ومحبوب نيل نعيم، خالدٍ، مقيم، في جنة عرضها السماوات والأرض، أدنى من يدخلها، له فيها، مثل الأرض، وعشرة أمثالها، فاختاروا المحبوب الأدنى، وضحوا بالمحبوب الأعلى.
وبيّن لهم أن ألم ترك الشهوات المحرمة، والصبر عليها فترة وجيزة من الزمن، لا يقاس بألم الخلود في نار تلظى، فاختاروا تحمّل الألم الأعلى على تحمل الألم الأدنى.
ولو تسألنا لما يناقض الإنسان خاصية العقل في التعامل مع أمر الآخرة فالجواب: لسببين: الأول: نقص الإيمان، وغبش الإدراك، وكثرة الشبهات المضعفة لليقين، ودواء هذا السبب بالعلم، وطلب البراهين المرسخة للإيمان واليقين.
والسبب الثاني: ضعف الإرادة، ودناءة الهمة، وقلة الصبر، واستيلاء الشهوات المحرمة على القلب، فتجده يعرف أن نجاته تكمن في الصلاة، ومع ذلك يترك الصلاة، وأن الأموال الزكوية التي لا يخرجها، ستتحول إلى صفائح من نار، يكوى بها حبينه، وجنبه، وظهره، ومع ذلك يبخل عن أخراجها، وتراها تعلم أن الحجاب فرض، وأن إظهارها مفاتنها للرجال الأجانب، وانسياقها خلف الموضات والصرعات وتقليد الكافرات يغضب عليها ربها، ويوصلها إلى جهنم، ورغم ذلك تصر على السير في طريق الهلاك.
وتعجب من حفظه لنصوص تحريم الربا، والسرقة، والغش، والرشوة، والظلم، واغتصاب أرض الآخرين، وأكل أموال الناس بالباطل، ومع ذلك لا يتوب، ولا يتراجع، لأنه ضعيف الإرادة، متبلد الهمة، قد أسرته الشهوات، واستولت على قلبه المغريات، فكيف يتخلص الإنسان من هذه الشهوات التي تحول بين كثير من الناس و بين الإقدام على هذه السعادة المتحققة في الدنيا والآخرة؟
الجواب: أن تخلصه من هذه الشهوات يحصل بأن يقوي في قلبه حب لله تعالى رسوله، والدار الآخرة، والجنة، ونعيمها، ويفضلها على هذه الشهوات، ويتذكر أنه لا يمكن أن تجتمع هذه الشهوات مع الحصول على نعيم الجنة، وأنه لا بد أن يختار أحد الأمرين.
إما - والعياذ بالله- لذة زائفة، زائلة، محرمة، مليئة بالغصص، والنكد، ويحرم من اللذة الباقية، أو العكس.
ومعلوم أن اللذة المحرمة تفنى، ويبقى وزرها وأثرها، قال الشاعر:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها
من الحرام ويبقى الخزي والعارُ
تبقى عواقب سوء في مغبتها
لاخير فـــــــي لذة من بعدها النارُ
نعم: لذة عاجلة، قد يلتذ بها الإنسان، قد يجد فيها إشباعا لشهوته، إشباعا لرغبته، إشباعا لميوله، ولكن !!
مجرد ما تنتهي اللذة بلحظتها انتهت، انتهت، و زالت، لكن التبعات كلها باقية، الأضرار الدنيوية باقية، وأيضا العواقب الأخروية باقية، إلا أن يتدارك نفسه بتوبة نصوح،
وقد جلى الله هذا المعنى في كتابه في العديد من آياته فقال: "من كان يريد العاجلة، عجلنا له فيها، ما نشاء، لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم، يصلها مذموما مدحورا"
وقال جل جلاله: "من كان يريد الحياة الدنيا، وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها، وهم لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون".
وإن مما يعين على الانتصار على الشهوات المحرمة، معرفة العبد، أن ما يستعجله العبد منها في الدنيا، سيحرم منه في الآخرة، قال تعالى: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، واستعجلتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون"
وقال صلى الله عليه وسلم:" من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسها في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة"
فلنجعل من شهر الصوم الذي انتصرنا فيه على شهواتنا المباحة، فرصة للانتصار على شهواتنا المحرمة، ولنجعل الدنيا كلها شهر صيامنا ليكون عيد فطرنا يوم مجيء ملك الموت ليقبض أرواحنا، قال الشاعر:
وقد صمت عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
وقال آخر:
أنت في دار شتات فتاهب لشتاتك واجعل الدنيا كيوم صمت فيه عن شهواتك
وليكن فطرك عند الله في يوم وفاتك
ثبتنا الله وإياكم على دينه وطاعته حتى يبلغنا جنته ومرضاته إنه سميع مجيب
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك