
وشكلت تلك الانتفاضة المسلحة المنعطف الأول والتأسيسي لمسيرة هيمنة نظام الأسد على لبنان بعد اتفاق الطائف سنة 1989، مكرسًا توزيع النفوذ والقوة في الدولة والمجتمع اللبنانيين على الميليشيات الموالية لنظام الأسد والمنتصرة في انتفاضة 6 شباط 1984.
وفي مناسبة مرور 38 سنة على تلك الانتفاضة، يستعيد هذا التحقيق مظاهر تطييف الشيعة، أو تكونهم المستجد كطائفة في خضم الحروب الأهلية في لبنان، منذ نشوء المنظمتين الأهليتين العسكريتين الشيعيتين: حركة أمل وحزب الله. وفي مرآة الحاضر اللبناني الراهن تبدو الانتفاضة إياها تأسيسية لما هي عليه حال لبنان الدولة والمجتمع في انحداره إلى حضيض البوس والقحط السياسي والاقتصادي. وهناك من يقول إن "انتفاضة" 7 أيار 2008 التي خطط لها وقادها حزب الله، كانت تذكرية بانتفاضة 6 شباط 1984.
الكيان الشيعي
نشأت المنظمتان الشيعيتان من رحم مجتمعات النزوح والحروب الداخلية (1975 - 1990)، والتهجير الحربي، والعمران العشوائي، ومن انبعاث التعبئة الدينية الطائفية والتعليم الديني، وتصاعد قوتهما في أحياء برج البراجنة والرمل العالي والواطي، التي شكلت مع حي السلم والأوزاعي والجناح أحياء ضواحي ضاحية بيروت الجنوبية.
والمظاهر أو العوامل هذه أدت إلى نشأة حركة أمل كيانًا شيعيًا خالصًا، ولد حزب الله من رحمه في رعاية "سيدين": الحرس الثوري الإيراني الخميني ونظام الأسد السوري، وتحت لواء مقاومة الإحتلال الإسرائيلي في لبنان. وهي "المقاومة" التي استمرت حتى اليوم وغيرت مصير لبنان الذي نشهد اليوم فصلًا مدمرًا من فصوله.
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى محطات أساسية في مسار التشيّع السياسي والعسكري في لبنان:
1- حقبة تأسيس الإمام موسى الصدر تيارًا سياسياً شيعياً شعبياً واسعا عُرف سنة 1974 بـ"حركة المحرومين".
2- حقبة حرب السنتين الأهلية في لبنان (1975 - 1976) التي امتدت حتى العام 1982، وشهدت اغتيال زعيم الحركة الوطنية اللبنانية الدرزي كمال جنبلاط (آذار 1977)، خطف الإمام موسى الصدر وتغييبه (آب 1978)، وتحوّل أمل منظمة أهلية عسكرية استخدمها نظام الأسد لمجابهة منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات وأحزاب الحركة الوطنية المسلحة والموالية لها في لبنان.
3- حقبة نشوء الحركة الإسلامية الخمينية في الثمانينات، وتجذرها داخل حركة أمل وخارجها في البيئة الشيعية. وسرعان ما تحولت تلك الحركة حزبًا سريًا هو حزب الله، فنشبت بينه وبين حركة "امل" حرب أهلية شيعية طاحنة أدت إلى احتكار الحزب الخميني وحده مقاومة الإحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، والسيطرة على الطائفة الشيعية، وعلى القرار السياسي والأمني في لبنان.
الرمل الواطي
نبدأ في تقصي نشوء ذاك الكيان الشيعي من برج البراجنة، التي كانت وحدها ضيعة ريفية شيعية المُلاك والسكان في ما كان يسمى ساحل النصارى حتى بدايات القرن العشرين، وسمِّيَ تسميةً إدارية رسمية جديدة، بعد نشوء دولة البنان الكبير: ساحل المتن الجنوبي. ويعيد رواةٌ محليون معمرون نشوءَ نواة برج البراجنة العمرانية الزراعية القديمة إلى توطن فلاحين شيعة، توافدوا تباعًا من الجنوب وجرود جبيل إلى ذاك السهل الساحلي في القرن التاسع عشر.
وفي أثناء حوادث 1958 الأهلية والطائفية وبعدها، نزلت في برج البراجنة موجة من الوافدين الجدد: جنوبيون من بنت جبيل وقرى تجاورها، فخالطوا في إقامتهم الجديدة سكان البرج المحليين. وبعلبكيون نزلوا في جوارها القريب. أما الآتون من علمات في بلاد جبيل، فنزلوا في حي السيّاد على طرف برج البراجنة. وتشير شهادة رجل معمر من آل عواد العلماتيين إلى أن أبناء عائلته كانوا من أوائل الوافدين إلى ذاك الحي، وإلى الغبيري وأطراف حارة حريك، وعمل رجال منهم في منشآت مدّ السكة الحديد على الساحل اللبناني، ربما في الثلاثينات أو الأربعينات، وافتتح بعضهم أولى ورش كسر السيارات في الغبيري.
وحين شُقّتْ طريق المطار الجديد في مطالع الستينات بين كثبان رملية غرب برج البراجنة، كانت تلك الكثبان المقفرة وصولًا إلى الأوزاعي، أملاكًا لبلدية برج البراجنة. وحسب الراوي نفسه، وُكِّلَ أثناء حوادث 1958 وجهاءُ من آل تقلا وشمعون وسلام، ووجيه آل عمار البرجاويين- هو حسين درويش عمار، رئيس بلدية البرج، الموالي للرئيس كميل شمعون، ووالد النائب الشيعي الشمعوني محمود عمار في الستينات والسبعينات- الوصاية على أراضي كثبان الرمل هناك. لكن هؤلاء الوكلاء، راحوا في ظروف وعمليات معقدة وغامضة ببيعون مساحات من تلك الأراضي الرملية الخالية، من دون أن يحصل مشتروها على مستندات تثبّت تملُّكهم إياها. وكان المشترون "المُلاك" الجدد من الوافدين الشيعة البعلبكيبن والهرمليين، ومن آل عواد الوافدين من علمات، إضافة إلى قلة من الجنوبيين. وشيّد هؤلاء مساكن في المساحات الرملية التي اشتروها، فأقاموا في بعضها وأجّروا البعض الآخر لأمثالهم من الوافدين، فنشأت بذلك نواة واحد من الأحياء السكنية غير الشرعية أو العشوائية في ضاحية بيروت الجنوبية.
والحي السكني الجديد الناشىء على المساحات الرملية سُمي الرمل الواطي، كناية عن انخفاضه على سفح كثبان الرمل المواجهة لبرج البراجنة والقريبة منها. وكانت طبيعة العمران والسكن والعيش في الرمل الواطي وليدة عاملين: نمط الحياة والعلاقات الاجتماعية التي حملها معهم الوافدون الجدد من منابتهم القروية، وشعورهم المكتوم بأنهم يبنون ويقيمون موقتًا على أرض لا تعود إليهم حقوق ملكيتها الشرعية الكاملة. والأرجح أن هذين العاملين، معطوفين على غياب قوانين التنظيم البلدي والمدني، وتراخي المؤسسات الحكومية والبلدية المخترقة بالولاءات الأهلية والمحلية، شكلت مجتمعة البطن الخصب الذي أنجب أحياء السكن العشوائي، في ضواحي ضاحية بيروت الجنوبية.
شيخ الزهّاد
ومن الأموال التي تحصلت من "بيع" مساحات من الكثبان الرملية، بنى الوجيه درويش عمار ورئيس بلدية برج البراجنة، جدار جبّانة البرج، ووضع شطرًا آخر من تلك الأموال في تصرف جامع البلدة. أما حسينية برج البراجنة فساهم آل عواد في إنشائها. ولتعليم أبنائهم أسس وجيه منهم مدرسة خاصة الرمل الواطي، فسماها التكامل. وفي تلك المدرسة ومدرسة برج البراجنة الرسمية، تعلم أبناء المهاجرين الجدد. وبين طلابها نشأت انتماءات حزبية، غلب عليها البعثيون والسوريون القومييون الاجتماعيون.
أما بدايات التعليم الديني المحدث في الرمل الواطي، فظهرت أوائل الستينات، بعد عودة من يسمّيه أقاربه شيخ الزهاد- الشيخ حسين عواد- من النجف، حيث درس بعض أصول الدين. وكان عواد قد ترك سلك الجندية في الجيش اللبناني وهاجر إلى العراق، وأنشأ بعد عودته ما يشبه مدرسة دينية في بيته، وراح يتردد عليه فتيان وشبان من الرمل الواطي وبرج البراجنة لتلقي شيء من أصول الدين وعلومه. وما لبث الشيخ، الذي يعتبره أهله وأقاربه "مرجعًا روحيًا"، أن اتخذ حسينية البرج مكانًا لدروسه الدينية، فراحت تجمع في أيام ازدهارها وتوسعها نهايات الستينات ومطالع السبعينات، نحو مئتي طالب من الفتيان والشبان، بالتزامن مع ظهور حركة الإمام موسى الصدر. وكان معظمهم بعلبكيون ومن شيعة قرى جبيل، إلى قلة من الشيعة الجنوبيين. وكثرة من أعضاء حركة أمل الصدرية الأوائل في برج البراجنة والرمل الواطي، وفي حي الرمل العالي الناشئ لاحقًا، مثل الأول، على إعالي الكثبان، درسوا على الشيخ عواد أوقاتًا متفاوته غير منتظمة. ومن هؤلاء شفيق المولى، عاطف عون، وعقل حمية الذي كان معلمًا في مدرسة خاصة في الرمل الواطي. وإضافة إلى هؤلاء كانت برج البراجنة ومحيطها، منبت كوادر أمل الأول. لذا أقامت في البرج مقر قيادتها الذي كان نبيه بري يداوم على التردد إليه منذ بداية الحروب الأهلية. وابن الشيخ حسين عواد، ابرهيم، أمسى إمام مسجد الغبيري المعروف باسمه، قبل أن يتسلمه في بدايات الحرب السيد محمد حسين فضل الله ويجعله ناديًا لجمعية دينية سمّاها "اتحاد الطلبة المسلمين".
ومن علامات توسع التعليم الديني المتصل بنشوء حركة أمل في المنطقة، دعوة علي محمود عواد، منشىء مدرسة التكامل، الشيخ عبد الأمير قبلان لأداء خطب الجمعة في مسجد برج البراجنة. وما لبث الشيخ قبلان أن أصبح إمام المسجد إياه، ووسع نشاطه إلى الحسينية، فأنشأ فيها حلقات للتدريس الديني.
الحرية العشوائية المسلحة
وإلى جانب توسع التعليم الديني، راح يتوسع العمران غير المشروع أو العشوائي بطيئًا، خافتًا أو في الخفاء، مطلع السبعينات. ثم أخذ يتمدد من الرمل الواطي في اتجاه ما سُمي الرمل العالي. وكانت القرابة والعلاقات الأهلية البلدية سبيلَ الوافدين الجدد من القرى البقاعية وبلاد جبيل والجنوب، للحصول على قطعة أرض أو اقتطاعها لبناء مسكن عليها من غرفتين أو ثلاث. وسرعان ما حرَّرت قوة المنظمات الفلسطينية المسلحة النافذة في مخيم برج البراجنة القريب ومحيطه، مشيدي المساكن الجديدة من رقابة أجهزة الدولة اللبنانية الأمنية والعسكرية والبلدية، فتكثف علنيًا البناء في الرمل الواطي والعالي. وما لبثت سيطرة المنظمات الفلسطينية أن أمست بلا منازع بعد صداماتها مع الجيش اللبناني في أيار 1973 في المنطقة وسواها من المناطق اللبنانية. فتعهدت منظمة فتح تدريب عناصر حركة أمل ومدّها بالسلاح والقوة. وكانت السيطرة الفلسطينية المسلحة تتعايش مع تنامي حزب البعث في أوساط الشبان المتعلمين من آل عواد. وهي العائلة التي ظلت حتى العام 1975 الأكبر عددًا في الرملين الواطي والعالي (نحو 150 بيت).
وفي حرب السنتين (1975 - 1976) كان شبان الرمل الواطي والعالي وأطرافهما الخزان البشري الأساسي لمسلحي أحزاب الحركة الوطنية والتقدمية (البعث، القومي السوري، الشيوعي) وأمل، إضافة إلى مجموعات تابعة مباشرة للمنظمات الفلسطينية، على جبهة الليلكي - كلية العلوم - صفير، وصولا إلى كنيسة مار مخايل في الشياح، في مواجهة مسلحي المناطق المسيحية المقابلة.
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع لبنان 360 بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك